فصل: تفسير الآيات (38- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 28):

{فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}
ولما كان التقدير: فذهب إليه كما أمره الله تعالى، فقال له ذلك فطلب الدليل على صحة الرسالة واستبعد أن يختص عنه بهذه المنزلة العلية وقد رباه وليداً {فأراه} أي فتسبب عن طلبه له أنه دل على صدقه بأنه أراه {الآية} أي العلامة الدالة على ذلك {الكبرى} وهي قلب العصا حية أو جميع معجزاته {فكذب} أي فتسبب عن رؤية ذلك أنه أوقع التكذيب بشيء إنما يقتضي عند رؤيته التصديق {وعصى} أي أوقع العصيان، وهو الإباء الكبير والتكبر عن امتثال ما دعي إليه مجموعاً إلى التكذيب بعد إقامة الدليل على الصدق وتحقق الأمر.
ولما كان التمادي على التكذيب ممن رأى وعرف الحق ولاسيما إذا كان كبيراً مستبعداً جداً، أشار إليه بأداة التراخي مع دلالتها على حقيقة التراخي أيضاً فقال: {ثم أدبر} أي فرعون بعد المهلة والأناة إدباراً عظيماً بالتمادي على أعظم مما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة. حال كونه {يسعى} أي يعمل بغاية جهده عمل من هو مسرع غاية الإسراع في إبطال الأمر الرباني بقلة عقله وفساد رأيه وأبى أن يقبل الحق {فحشر} أي فتسبب عن إدباره ساعياً وتعقبه أنه جمع السحرة طوعاً وكرهاً وزاد عليهم أيضاً جنوده {فنادى} أي في المجامع {فقال} أي مناديه الذي لا يشك أنه عنه، فكان قوله كقوله: {أنا} وقال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إن ربي أرسلني إليك، لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في السرور والنعيم، ثم تموت فتدخل الجنة، فقال: حتى أستشير هامان، فاستشاره فقال: أتصير عبداً بعد ما كنت رباً تعبد، فعند ذلك بعث الشرط وجمع السحرة والجنود، فلما اجتمعوا قام عدو الله على سريره فقال: أنا {ربكم الأعلى} فكان هذا نداؤه يعني كلكم أرباب بعضكم فوق بعض وأنا أعلاكم، ولا رب فوقي أصلاً، وذلك لأن الإله عنده الطبيعة، وهي مقسمة في الموجودات، فهم كلهم أرباب، ومن كان أعلى كان أقعد في المراد، وهو كان أعلى منهم فقبحه الله ولعنه ولعن من تمذهب بمذهبه كابن عربي وابن الفارض وأتباعهما حيث أنكروا المختار الملك القهار، ورسوله المصطفى المختار، وتبعوا في وحدة الوجود بعض الفلاسفة ثم الحلاج بعد فرعون هذا الذي لم يصرح الله بذم أحد ما صرح بذمه، ولم يصرح بشقاء أحد ما صرح بشقائه، كهذه الآية فإنها مصرحة بوقوع نكاله في الآخرة كما وقع في الدنيا، وقوله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم المقبوحين} [القصص: 40- 42] إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلائل الواضحات التي لا تحصى وهي كثيرة، وأعظمها القياس البديهي الإنتاج {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83] {وإن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] ويروى أن إبليس لما سمع منه قوله هذا قال: إني تجبرت على آدم فلقيت ما لقيت، وهذا يقول هذا؟ وهذا دعاه إليه الكبر الناشئ من فتنة السراء التي الصبر فيها أعظم من الصبر في الضراء، قال الإمام الغزالي في كتاب الصبر من الإحياء: فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استحف فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره، فإن امتعاضه وغيظه عند تقصيرهم في خدمته لا يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء- انتهى. ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم ما لام خادمه في شيء قط- والله تعالى هو الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه، سبب عنها وعقب قوله: {فأخذه الله} أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له: {نكال الآخرة} فهو مصدر من المعنى، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل: الأخرى لوافقت {والأولى} أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه، قال الضحاك: أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاه بنجوة من الأرض، أما في العقبى فيدخله الله تعالى النار ويجعله ظاهراً على تل منها مغلولاً مقيداً ينادي عليه هذا الذي ادعى الربوبية دون الله انتهى. وأنا لا أشك أن الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وأتباعهم يكونون في النار تحتهم وتحت آله يشربون عصارتهم، فإنهم ادعوا أنه ناج وصدقوه فيما ادعاه وادعوا لأنفسهم وغيرهم مثل ما ادعاه تكذيباً للقرآن وإغراقاً في العدوان، وزادوا عليه بابتذال الاسم الأعظم الذي حماه الله من أن يدعيه أحد قبل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم فادعوا أنه يطلق عليهم وعلى كل أحد بل كل شيء، وأمارة هذه الطائفة الخبيثة التي لا تتخلف أن تقول لأحدهم: العن فرعون الذي أجمع على لعنه جميع الطوائف.
وهو مثل عندهم في الشرارة والخبث فلا يلعنه، وإن لعنه فبعد توقف.
ولما لخص سبحانه وتعالى ما مضى من قصصه في هذه الكلمات اليسيرة أحسن تلخيص وأقربه مع عدم المخالفة لشيء مما مضى لأن المفصل موضع الاختصار أما باعتبار النزول فإنه نزل أولاً فكان تقريب القصص للناس بالاقتصار على ما لابد منه أولى ليستأنسوا به، وأما من جهة الترتيب فلتذكيرهم بما مضى ليجتمع في المخيّلة في أقرب وقت ويتذكر به ذلك المبسوط، وختمه بأخذه هذا الأخذ الغريب أرشد إلى ما في القصة من العبرة، مشيراً إلى استحضار ما مضى كله، فقال مؤكداً مقرراً للمكذب ومنبهاً للمصدق: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي فعله والذي فعل به {لعبرة} أي أمراً عظيماً يتعمد الاعتبار به من معنى إلى معنى حتى يقع به الوصول إلى كثير من المعارف {لمن يخشى} أي من شأنه الخوف العظيم من الله لأن الخشية- كما تقدم- هي أساس الخير، فأول العبور أن ينقل السامع حال غيره إليه فيتذكر بإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم منهم على قوتهم ثم بقوة ما حصل لهم من القهر من ذلك حتى أوجب اتباعهم بالجنود ثم بفرق البحر ثم بإيرادهم إياه ثم بإغراقهم فيه كلمح البصر لم يخرج منهم مخبر قدرة الله تعالى على إيراد الكفار النار وقهر كل جبار وبجعل العصا حية وإخراج القمل والضفادع من الأرض وتحويل الماء دماً قدرته سبحانه وتعالى على ذلك السامع بالعذاب وغيره وعلى خصوص البعث- إلى غير ذلك من العبر وواضح الأثر.
ولما ختم قصة فرعون- لعنه الله- بالعبرة، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لاسيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه، وصل به ما هو كالنتيجة منه، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه صلى الله عليه وسلم إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ: {أأنتم} أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً {أشد خلقاً} أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد {أم السماء} على ما فيها من السعة والكبر والعلو والمنافع.
ولما كان الجواب قطعاً: السماء- لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني مختصر العالم الآفاقي، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر، مبيناً لكيفية خلقه لها: {بناها} أي جعلها سقفاً للأرض على ما لها من العظمة، ثم بين البناء بقوله: {رفع سمكها} أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو سمنها الذاهب في العلو رفيعاً، قال في القاموس: السمك السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، أو القامة من كل شيء، وقال أبو حيان: السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها: {فسواها} أي عدلها عقب ذلك بأن جعلها مستوية لا شيء فيها أعلى من شيء ولا أخفض ولا فطور فيها، وأصلحها بما تم به كمالها من الكواكب وغيرها، وجعل مقدار تخن كل سماء وما بين كل سماءين وتخن كل أرض وما بين كل أرضين على السواء لا يزيد شيء من ذلك على الآخر أصلاً.

.تفسير الآيات (29- 37):

{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)}
ولما كان كل من ذلك يدل على القدرة على البعث لأنه إيجاد ما هو أشد من خلق الآدمي من عدم، أتبعه ما يتصور به البعث في كل يوم وليلة مرتين فقال: {وأغطش} أي أظلم إظلاماً لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء {ليلها} أي بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه. وأضافه إليها لأنه يحدث بحركتها، وبدأ به لأنه كان أولاً، والعدم قبل الوجود {وأخرج ضحاها} بطلوع شمسها فأضاء نهارها، فالآية من الاحتباك: دل ب {أغطش} على أضاء وبإخراج الضحى على إخفاء الضياء، ولعله عبر بالضحى عن النهار لأنه أزهر ما فيه وأقوى نوراً.
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال: {والأرض} ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو، حذف الخافض فقال: {بعد ذلك} أي المذكور كله {دحاها} أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة.
ولما ذكر الدحو، أتبعه ما استلزمه من المنافع لتوقف السكنى المقصودة بالدحو عليه فقال كالمبين له من غير عاطف: {أخرج منها} أي الأرض {ماءها} بتفجير العيون، وإضافته إليها دليل على أنه فيها {ومرعاها} الذي يخرج بالماء، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه.
ولما ذكر الأرض ومنافعها، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال: {والجبال} أي خاصة {أرساها} أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة. ولما كانت الإعادة واضحة من تناول الحيوان المأكل والمشرب وغيرهما من المتاع فإنه كلما نقص منه شيء تناول ما قدر له ليعود ذلك أو بعضه، قال منبهاً على أنه كل يوم في إعادة بانياً حالاً مما تقدم تقديره: حال كونها {متاعاً} مقدراً {لكم} تتمتعون بما فيها من المنافع {ولأنعامكم} أي مواشكيم بالرعي وغيره.
ولما ذكر ما دل على البعث، أتبعه ما يكون عن البعث مسبباً عنه دلالة على أن الوجود ما خلق إلا لأجل البعث لأنه محط الحكمة: {فإذا جاءت} أي بعد الموت {الطامة الكبرى} أي الداهية الدهياء التي تطم- أي تعلو- على سائر الدواهي وتغطيها فتكون أكبر داهية توجد، وهي البعث بالنفخة الثانية- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والعامل في {إذا} محذوف تقديره: فصل الناس إلى شقي وسعيد.
ولما كان الشيء لا يعرف قدره إذا كان غائباً إلا بما يكون فيه، قال مبدلاً منه: {يوم يتذكر} أي تذكراً عظيماً ظاهراً- بما أشار إليه الإظهار {الإنسان} أي الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له {ما سعى} أي عمل كله من خير وشر لأنه يراه في صحيفة أعماله، والإخبار عن تذكره منبهاً على ما في ذلك اليوم من الخطر لأن أحداً لا يعمل جهده في تذكره إلا لمحوج إلى ذلك وهو الحساب وتدوينه في صحيفة أعماله.
ولما أشار إلى الحساب ذكر ما بعده فقال: {وبرزت} أي أظهرت إظهاراً عظيماً، وبناه للمفعول لأن الهائل مطلق تبريزها لا كونه من معين، مع الدلالة على الخفة والسهولة لكونه على طريقة كلام القادرين {الجحيم} أي النار التي اشتد وقدها وحرها {لمن يرى} أي كائناً من كان لأنه لا حائل بين أحد وبين رؤيتها، لكن الناجي لا يصرف بصره إليها فلا يراها كما قال تعالى: {لا يسمعون حسيسها} [الأنبياء: 102].
ولما كان جواب {إذا} كما مضى محذوفاً، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين: قسم للجحيم وقسم للنعيم، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً: {فأما من طغى} أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه، قال في القاموس: طغى: جاوز القدر وارتفع وطغى: غلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم، والماء: ارتفع.

.تفسير الآيات (38- 41):

{وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
ولما كان الذي بعد حدود الله هو الدنيا، صرح به فقال: {وآثر} أي أكرم وقدم واختار {الحياة الدنيا} بأن جعل أثر العاجلة الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى.
ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك: {فإن الجحيم} أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها {هي} أي لا غيرها {المأوى} أي المسكن له- هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف، وعند الكوفيين أن (ال) نائب عن الضمير قاله أبو حيان.
ولما ذكر الطاغي، أتبعه المتقي فقال: {وأما من خاف} ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال: {مقام ربه} أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد.
ولما ذكر الخوف ذكر ما يتأثر عنه ولم يجعله مسبباً عنه ليفهم أن كلاًّ منهما فاصل على حياله وإن انفصل عن الآخر فقال: {ونهى النفس} أي التي لها المنافسة {عن الهوى} أي كل ما تهواه فإنه لا يجر إلى خير لأن النار حفت بالشهوات، والشرع كله مبني على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس، وذلك هو المحارم التي حفت بها النار فإنها بالشهوات، قال الرازي: والهوى هو الشهوة المذمومة المخالفة لأوامر الشرع. قال الجنيد: إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها، أي فأفاد ذلك أنه لم يؤثر الحياة الدنيا، فالآية من الاحتباك: أتى بطغى دليلاً على ضده ثانياً، وبالنهي عن الهوى ثانياً دلالة على إيثار الدنيا أولاً. ولما كان مقام ترغيب، ربط الجزاء بالعمل كما صنع في الترهيب فقال وأكد لأجل تكذيب الكفار: {فإن الجنة} أي البستان الجامع لكل ما يشتهي {هي} أي خاصة {المأوى} أي له، لا يأوي إلى غيرها، وهذا حال المراقبين.